ذات يوم في حصة التعبير كان موضوع التعبير عن الخيال العلمي, و كانت المعلمة قد طلبت منا أن نتخيل أننا قمنا برحلة إلى الفضاء, كم أسعدني ذلك! فالخيال العلمي – و خاصة إلى الفضاء- هو لعبتي, أعني أن ذلك هو ما أفعله طوال الوقت, لذلك كان من الواجب علي أن أكتب عن رحلة غير عادية, و هذا ما كتبت:
" ها أنا أستعد لتحقيق حلمي, أخيراً و بعد كل تلك العقود, ها قد أتت الفرصة التي كنتُ أنتظرها, أخيراً . . أخيراً و قد يكون آخراً بعض الشيء, ها أنا أجلس في مقعدي, ها أنا أستعد للانطلاق, يا لها من لحظة! ها أنا سأنطلق إليه, إلى حلمي, إلى ذلك الواسع, إلى ذلك اللامتناهي, إلى الفضاء.
كثيراً ما كنتُ أتخيل و أنا صغيرة أنني أسافر إليه, كثيراً ما حلمتُ و كتبتُ و رسمت, و لم أتوقع بعد كل تلك السنوات أن الحلم سيتحقق, تماماً مثلما كتبتُ في اختبارات التعبير, تماماً مثلما حكيتُ عن مغامراتي الخيالية, ها أنا الآن في مركبة فضائية حقيقية, مثلما كنتُ أرى في أفلام الخيال العلمي و المغامرات.
استعديتُ جيداً, أفقتُ من الأحلام و ركزت في التجهيزات, كل شيء جاهز, ها هم الزملاء يجلسون في مقاعدهم, ها هي المحركات قد بدأت تدور, و بدأ صوتها يرتفع شيئاً فشيئاً, و ها قد بدأ العد التنازلي, و كلما عُد رقم, ارتفع صوت المحركات أكثر, و ارتفعت معه ضربات قلبي, يا إلهي, لا أصدق أنني ذاهبة للفضاء, أشعر ببعض الخوف, أم هو حماس؟ أتراها تكون سعادة؟ أم ماذا هي؟
لم يعد للمشاعر معنى, فقد اختلطت معاً, لم أعد أشعر بشيء إلا رغبة جامحة في اكتشاف المجهول, سواء المجهول من هذا العالم, أو المجهول مما قد يواجهنا في الطريق.
ها هو العد يتناقص, و المحركات تُسرع, لا وقت للتراجع, لا يمكنني أن أبدل رأيي الآن, ها هو العد يتناقص أكثر, تماماً مثلما كنتُ أشاهد في التلفاز و في مسلسلات الرسوم المتحركة المفضلة عندي, "ثلاثة . . اثنان . . واحد" ها قد انطلقنا, شعرتُ من قوة الاندفاع أنني صرتُ جزءاً من المقعد الذي أجلس عليه, فتمسكتُ به أكثر, شعرتُ و كأن روحي تنسحبُ مني, كأنني أتركِ جزءاً مني في الأسفل, و شعرتُ كذلك بأنه حتى المقعد تمسك بي مثلما أتمسكُ به, أخذني الحماس, و عدتُ بذاكرتي إلى الوراء, إلى حيثُ كنتُ طفلةً ألعب بصاروخ صنعته, عندها رفعتُ يدي كالأبطال الخارقين, و قلتُ و ملء قلبي الحماس "إلى اللانهائية و ما بعدها . . "
شعرتُ بعد فترة بنوع من الملل, لقد طال الانطلاق, عندها تذكرت أن هذه ليست رحلة بالطائرة, لسنا ذاهبين إلى بلد مجاور, بل إنه عالم آخر, نحنُ نخترق طبقاتٍ و طبقات من الغلاف الجوي, يجب للرحلة أن تطول.
و بعد طول انتظار, أخيراً وصلنا إلى الفضاء, لا أصدق ما أرى, هل أنا أحلم أم ماذا؟ لا أدري ما الذي أثار دهشتي أكثر, هل هو وجودي في الفضاء, أم منظر النجوم و الكواكب التي تبدو قريبة جداً منا كأن ما بيننا و بينها بضع خطوات, أم أنه منظر أرضنا من بعيد و هي تبدو كاللؤلؤة الزرقاء المشابة ببعض الأبيض؟!!
لم نصل إلى محطتنا بعد, فلا زلنا في الطريق, ها نحن في طريقنا لاستكشاف المجهول, إلا أنه كان بإمكاننا التمتع قليلاً بانعدام الجاذبية, حل كل من الزملاء حزامه, بدؤوا يتطايرون حولي, كأنهم هلام هائم في ماء, تبسمتُ لمشهدهم المضحك, عندها شعرت بيد طيفية تسحبني للأعلى, فحللتُ حزامي و بدأتُ أسبح مثلهم, شعرتُ أنني ككرة " لالا" البرتقالية التي كنتُ أشاهدها في "تليتبيز", انتابتني ضحكة مفاجئة, لقد أعادتني هذه الرحلة إلى شبابي, بل إلى طفولتي, لقد نسيتُ كل ذلك العمر, و لم أعد أذكر سوى برامج الأطفال الصباحية التي كنتُ أشاهدها عندما أعود مبكراً من المدرسة, آهٍ ما أجملها من أيام تلك, أيام المدرسة!
و لكن, بعد فترة شعرتُ بانقباض في قلبي, شعرتُ ببعض القلق, و تذكرتُ حادثاً حصل عندما كنتُ صغيرة, أجل, أذكره بكل تفاصيله, عندما تسرب الأكسجين من سفينة بعض رواد الفضاء, و مات طاقم الرحلة نتيجة عدم ارتدائهم بذلاتهم في ذلك الوقت, أجل لقد انفجرت أجسامهم نتيجة الانخفاض الشديد في الضغط, أعرف أن هذه السفينة مؤمنة جيداً و لكن, الاحتياط واجب, لا أريدها أن تكون آخر رحلة لي.
لذلك اتجهتُ مباشرة و بصعوبة بالغة لأرتدي بذلة الفضاء خاصتي, بالطبع لا حاجة لوصف كم الضحك و السخرية عندما رأوني أحاول ذلك.
"لم نصل لسطح الكوكب "إكس" بعد, سيفرغ الأكسجين الخاص بكِ, و ستحرمين نفسكِ متعة الحرية"
فأخبرتهم عن ذلك الحادث, عندها لم ألقَ إلا السخرية.
" هذه مركبة فضاء أجري عليها العديد من التجارب قبل أن نستخدمها, هل جننتِ؟ أم . . أن هذا من آثار الشيخوخة؟؟ هل العجوز خائفة؟"
لم أكترث لهم, فهم ما زالوا شباباً, لم يعهدوا تلك الأشياء.
بينما نحن نمرح, قال أحد الزملاء: انتبهوا, أظن أن هناك خطباً ما.
فلم يكترث الباقون, و قد نوهوا عن أنه لربما تأثر بكلامي, إلا أنه ارتدى بذلته هو الآخر, و بينما هم يمرحون, و إذا بنا نشعر باهتزاز شديد, و إذا به يحدث ما لم يتوقعه أحد – عداي أنا –, لم نستطع أن ننقذهم, للأسف ماتوا جميعاً, بدأ الدم يخرج من أنوفهم و أفواههم, و بدت أجسادهم و كأنها ستنفجر, لم يكن بوسعنا أنا و ذلك الزميل إلا أن نستخدم مركبة النجاة.
و لكن . . كيف سنعود الآن؟؟ لم يعد باستطاعتنا العودة؛ فقد قذفتنا المركبة بعيداً عن مسارنا, ليس بإمكاننا حتى المواصلة إلى وجهتنا, فقد ابتعدنا كثيراً, حتى أن الاتصال مع الأرض قد انقطع.
بعد جهد كبير استطعنا تحديد موقعنا, يا إلهي!! لقد تعدينا بلوتو حتى, لا أمل في العودة, عندها رأيتُ أنه إذا كنا لن نعود, فعلى الأقل لنتابع السير. هتف الزميل: هل أنتِ مجنونة؟ إلى أين تأخذيننا؟ فأجبتُ بابتسامة منهكة: إلى اللانهائية . . و ما بعدها.
لم يكن لديه خيار, فهو لا يزال مبتدئاً, كما أنه قد فقد الأمل تماماً في العودة, كان يأمل في أن نجد كوكباً يشبه كوكبنا صالح للعيش, أما أنا فقد كنتُ آمل ذلك أيضاً, بالإضافة إلى أن نجد بعض المخلوقات المسالمة هناك, أجل أعرف أنني كنتُ متفائلة و خيالية جداً, و لكن ماذا أفعل؟ على الأقل لنمت بابتسامة.
و فجأة, بدأت جاذبية هائلة تسحبنا, يبدو أنه . . أنه . . لا . . إنه ثقب أسود, قضي علينا, لا مفر منه.
حاولنا جاهدَين أن نبعد المركبة عن مسار الثقب, إلا أن جميع جهودنا باءت بالفشل, و بدأ الثقب يسحبنا إليه.
انهمرت الأفكار علي, ماذا سيحدث لنا؟ أتراه مثلما يقال سينقلنا إلى زمان أو مكان آخرين؟ أم تراه سيقذفنا إلى عالم آخر؟ هل تنجح نظريات أينشتاين و أصحابه الآن؟
أما زميلي -التي كانت تلك آخر مرة أراه فيها- فلم تكن لديه إلا فكرة واحدة, الموت المحتم.
شعرتُ بأنني أنجذب بقوة, شعرتُ بقوة خفية تضغط علي, تعصرني, تلعب بي كالدمى.
و لم أذكر بعد ذلك سوى شعور غريب و كأنما قد عبرتُ من ثقب إبرة.
بعد ذلك فتحتُ عيني, فإذا بي ملقاة على سطح كوكب ما, كوكب يبدو أنه معمور, أجل . . عرفتُ أنني سأجد يوماً ما مخلوقات فضائية, و لكن. . ألا يبدو هذا الكوكب و كأنه الأرض في سابق عهدها؟؟
و حتى المكان نفسه يبدو مألوفاً, و كأنما زرته من قبل.
و فجأة . . سمعتُ صوتاً ما, صوتاً مرتفعاً, و كأنه جرس إنذار أو شيء من هذا القبيل, و لكن هذا الصوت يذكرني بشيء ما, إنه . . يبدو مثل . . مستحيل . . جرس مدرسة؟؟
نهضتُ عن الأرض فوجدتُ نفسي و كأنما عدتُ للماضي, ألا تبدو هذه كمدرسة قديمة؟ أجل, أنا على الأرض
نسيتُ كل التعب و الألم و جررتُ رجلاي إلى أقرب نافذة لأطل منها, علني أرى شيئاً مفرحاً قبل أن أستيقظ من هذا الحلم المؤلم.
يبدو أنهم طلاب في صف, أجل و يبدو أنهم يختبرون, ركزتُ بنظري الذي لم يعد يصلح, فإذا بي أجدها حصة لغة عربية.
أخرجت نظارتي, و نظرتُ بها, فإذا به اختبار تعبير, و إذا بي أرى طالبة أشعر و كأنما رأيتها من قبل, قرّبتُ الصورة بنظارتي فإذا بي أجدها تكتبُ عن رحلتي المثيرة, ترى . . كيف علمت بها؟؟