العلاقة الحميمة بين الطفل وأمه لا يُمكن وضع بداية محددة لها، كما أنها بالطبع علاقة لا نهاية لها. وأساليب التواصل فيما بين الطفل وأمه، كذلك لا حصر لها، لأن منها ما يجري بالإشارة أو بالعبارة أو بالحركة أو غيرهم. ومن أهم مظاهر بدء العلاقة وأساليب التواصل فيما بينهما، هو بدء الجنين بالطرق على الجدران الداخلية لرحم أمه، إما بيديه أو برجليه أو برأسه، كي يقول لأمه أشياء وأشياء. ونحن البعيدين والمتفرجين والمستمعين، لا نُدرك جوانب متعددة حول الكثير مما يدور بين الجنين والأم. لكننا نعلم أن الجنين يشعر بالألم ويبتسم ويُقطب حاجبيه، وتبدو على وجهه علامات الرضا أو الضيق. وأنه أيضاً يُحس ويشعر بما تتعرض له أمه، بل وحتى بطعم ما تتناوله من أطعمة. والجنين ليس أمامه سوى أن يتخاطب مع أمه بلغة الحركة، كي يُبلغها أشياء كثيرة عمّا يعيشه أو يشعر به أو يود قوله لها.
* لحظة تبليغ رسالة
* وبالنسبة للأم فإن الحمل بحد ذاته مرحلة متميزة من العمر، وخاصة حينما يكون الحمل لأول مرة. وإحدى اللحظات المفعمة بالإثارة والرهبة خلال الحمل، هي لحظة الإحساس بأول تلك الاهتزازات أو الرفرفة التي تصدر عن حركة الجنين وضرباته الرقيقة على جدار الرحم. وهي لحظة تمثل للأم تلقي أخبار سارة ومطمئنة حول نمو جنينها وتشكل أعضاء جسمه وبدء امتلاكه قوة الحركة في أطرافه. ولا أشبه بتلك اللحظة إلا لحظتين أخريين، الأولى لحظة معرفة الأم بأنها حامل، والثانية لحظة اطمئنانها على إتمام ولادة جنينها وخروجه إلى الدنيا بسلام. والطبيعي أن تشعر الأم بحركة جنينها بين الأسبوع 16 والأسبوع 25 من عمر الحمل. وغالب الحوامل، في حملهن لأول مرة، قد لا يشعرن بتلك الحركة في مرحلة مبكرة، ويتأخر ذلك إلى حوالي الأسبوع 25 من الحمل. وفي الحمل التالي، أو ما بعده، قد يبدأن بالشعور بحركة الجنين في أوقات أبكر من عمر الحمل، بل إن بعضهن يشعرن بها حتى في بدايات الأسبوع 13 من عمر الحمل.
وأنسب الأوضاع للشعور بحركة الجنين، هي عندما تكون الأم ساكنة، سواءً في جلوسها أو استلقائها.
* أحاسيس متنوعة
* وهذه الحركات الصغيرة واللطيفة، حين صدورها عن الجنين وأعضائه الضعيفة بنية وقوة، قد لا تكون رقيقة ولطيفة على الأم طوال الوقت. بل ربما تشعر الأم أحيانا بحركات شديدة إلى حد الإحساس بالألم. إلا أنها تظل، في نهاية الأمر، رسالة من الجنين للأم بأن روح وجسد إنسان صغير وعزيز، قد تكونا في داخل رحمها.
وتختلف الحوامل في وصفهن لنوعية إحساسهن بحركة الجنين. ومنهن من تصفها بأنها أشبه بالإحساس بحركات رفرفة جناح الفراشة أو الطائر الصغير. أو مثل ذلك الشد الذي يعتري العضلات حال النرفزة. أو أحياناً مثل الإحساس بالارتطام والوقوع على الأرض.
وغالباً ما يصعب على الكثيرات الجزم بأن ما أحسسن به في البطن، هو حركة للجنين. لكن مع تكرار حصول الحركة منه، تتعرف الحامل على أن تلك الحركة، إنما هي من الجنين، وليست حركة للغازات في البطن أو تقلصات في الأمعاء وغيرها. ومع دخول الحامل في الثلث الأخير من الحمل، تزيد شدة ووقع تلك الحركات الصادرة عن الجنين، ويُصبح وصف الأم لها أقرب إلى الرفس أو الوكز.
* سلوكيات حركة الجنين
* في بدايات الإحساس بحركة الجنين، قد تشعر الأم بتلك الرفرفة أو الاهتزازات الخفيفة في أوقات متباعدة، ومن آن لآخر. ولكن مع تطور نمو الجنين وزيادة حجم جسمه، أي في المراحل الأخيرة من الثلث الثاني للحمل، تُصبح تلك الحركات أكثر قوة وأقرب إلى الرفس، كما تزداد وتيرة تكرار الشعور بها.
وما أكدته الدراسات الطبية أن عدد حركات الجنين قد تصل إلى حوالي 30 مرة في الساعة، خلال بعض الأوقات من الثلث الأخير لعمر الحمل! كما أن الجنين قد يتحرك في بعض الأوقات من اليوم أكثر مما يتحرك في أوقات أخرى منه. وأن ثمة وتيرة، متكررة في غالب الأيام، لارتفاع معدل حركة الجنين. وهي قد تعكس ما يُمكن وصفه بدقة «تناوب» حالات من النوم والاستيقاظ للجنين خلال كامل ساعات اليوم الواحد. ولذا تُؤكد المصادر الطبية أن حركة الجنين عادة تكون أعلى فيما بين الساعة التاسعة مساءً وحتى الساعة الواحدة صباحاً. أي بالضبط في تلك الساعات التي تُحاول الأم الحامل جهدها الدخول إلى النوم والاستغراق فيه طلباً للراحة من عناء اليوم. وحينما حاول الباحثون إيجاد تعليل لهذا السلوك من الأجنة، وجدوا أنه مرتبط بتغيرات تطال نسبة سكر الدم لدى الأم. وفيما بين تلك الأوقات من الليل تبدأ نسبة سكر الدم لدى الأم بالانخفاض. وما قد يبدو من هذا، أن الجنين يُعبر عن شيء ما، ربما عن جوع أو عدم ارتياح، بحركاته الجسدية تلك!. ويزيد الباحثون إخبارنا بأن حركة الجنين تتأثر أيضاً بتغير المؤثرات البيئية التي تتعرض لها الأم. ولذا تختلف نوعية حركته بالتفاعل مع نوعية وشدة الأصوات التي تسمعها الأم، وحتى بنوعية اللمسة التي تتعرض لها، أو نوعية مشاعرها نحو الزوج. وتحديداً تذكر بعض المصادر الطبية عبارة مفادها بأن الأم الحامل حينما تُحاول التقرب والالتصاق بظهر زوجها، فإن تفاعل الجنين هو ربما رفس الزوج في ظهره، الأمر الذي يتساءل بعض الباحثين عن مدى صحة اعتباره تعبيراً عن الغيرة من الاهتمام بالغير.
* مراقبة حركة الجنين
* وما أن تتضح حركة الطفل بشكل جلي، وهو ما يحصل عادة مع بلوغ الأسبوع 28 من عمر الحمل، فإن بعض الأطباء يرى ضرورة نصيحة الحامل أن ترصد وتتابع حركات الجنين، من رفس ورفرفة. وذلك كإحدى العلامات المهمة لنمو الجنين بشكل طبيعي. إلا أنه لا يبدو أن ثمة أدلة علمية كافية، ولا اتفاقاً بين الأطباء، على جدوى الاعتماد على هذه الوسيلة كمؤشر جيد على سلامة صحة ونمو الجنين.
وأياً كان رأي الطبيب التي تتابع الحامل لديه، فإن طريقة عد حركات الجنين تتطلب اختيار الوقت الذي يكون فيه أكثر حركة ونشاطاً، وغالباً في فترة ما بعد تناول أحد وجبات الطعام. وهنا على الحامل أن تتخذ وضعية مريحة في الجلوس أو الاستلقاء على أحد جانبيها كي تبدأ بحساب عدد الحركات.
وتتفاوت آراء الأطباء أيضاً حول كيفية عد تلك الحركات الصادرة عن الجنين. وتتبنى الكلية الأميركية لأطباء النساء والتوليد حساب الأم لمقدار تلك المدة التي يُتم الجنين خلالها القيام بـ10 حركات. وتقول بأن الطبيعي هو صدور تلك الـ10 حركات خلال ساعتين تقريباً.
* اضطرابات في رصد حركة الجنين
* عند ملاحظة حركة الجنين والشك في كونها غير طبيعية، علينا تذكر عدة نقاط حول أية اضطرابات فيها: ـ مدى دقة الأم في الشعور بحركة الجنين وملاحظة ذلك، لأن رصد حركة الجنين، وتعدادها خلال وقت معين، يتطلبان أن ترتاح الحامل بشكل جيد وفي وضعية إما الجلوس أو الاستلقاء على أحد الجانبين. كما يتطلب أن تبتعد الحامل عن أية أسباب للتوتر. وألا تكون لديها شكوى مزعجة في الجهاز الهضمي وغيره. والسبب أن عدم توفر هذه العوامل قد يحرم من احتساب بعض الحركات الخفيفة، إضافة إلى التأثيرات السلبية لعدم توفر تلك الظروف على حركة الجنين بالأصل. ـ قد يكون الجنين نائماً خلال الوقت الذي تُحاول الحامل رصد حركته. وما يحصل في كثير من الأوقات، هو أن تنتاب الأم حالة من القلق على الجنين، وتحاول حينها أن ترصد حركته لتطمئن عليه، ويُصادف أن يكون الجنين نائماً أو كسولاً، فيزداد قلقها دونما داع لمّا لا تجده يتحرك بشكل طبيعي.
ـ نشاط الحركة يختلف من جنين لآخر، أي بمعنى أن ثمة أجنة أكثر نشاطاً من غيرهم. والأمر أشبه بما هو ملاحظ بين عامة الأطفال في اختلاف مستوى نشاطهم وحركتهم ولعبهم وكلامهم.
ـ حينما لا تشعر الحامل بأية حركة للجنين في الفترة ما قبل بلوغ الأسبوع 25 من الحمل، فإن عليها ألا تفزع من الأمر، خاصة حينما لا تكون واثقة بنفسها في القدرة على تمييز حركة الجنين من أية أعراض أخرى في البطن. وغالباً ما تتمكن الحامل، في الأسابيع التالية، من تمييز حركة الجنين ورصدها، نتيجة لتكرار حركته من آن لأخر. بل وستتمكن الحامل من توقع وقت حركة الجنين خلال اليوم قبل حصولها.
ـ بعد تجاوز الأسبوع 32 من عمر الحمل، ربما تقل حركة بعض الأجنة بشكل طبيعي. وذلك نظراً لزيادة نمو حجم جسم الجنين وصعوبة حركته داخل تجويف الرحم، الضيق نسبياً عليه حينئذ.
ـ على الحامل ألا تقلق إن لم تتمكن من رصد 10 حركات خلال ساعتين. بل عليها أن تختار وقتاً آخر في اليوم وأن تُهيئ ظروفاً أفضل للتمكن من حساب العدد. وحينما تتكرر المحاولة من دون بلوغ رصد 10 حركات في ساعتين، أو حينما تشعر الحامل أن نشاط جنينها قل بشكل واضح، فإن عليها مراجعة الطبيب أو إبلاغه بالأمر. وما سيفعله الطبيب هو إجراء فحص بسيط لرصد نبضات الجنين والتأكد من سلامته.
* الجنين داخل الرحم.. حياة يومية عامرة بالأنشطة المتنوعة
* الجنين داخل الرحم، ليس نائماً طوال الوقت. وليس خاملاً ساكناً بلا حراك. وليس غائباً عن الوعي بانتظار خروجه إلى الدنيا. بل في الحقيقة هو إنسان صغير يعيش مرحلة من مراحل عمره، بكل تفاصيلها. وخلال ذلك يتفاعل مع كل ما يدور حوله. وإن أعياه التعب أخذ قسطاً من الراحة. وإن اكتفى منها، استيقظ وتحرك. والواقع ليس هذا فحسب، بل ما تشير إليه الدراسات الطبية أبعد من هذه الصورة الضيقة لتخيل نوعية حياته داخل الرحم، وتحديداً تتحدث عن تفاعل وتأثر لا يقتصر على أسابيع وجوده في الرحم، بل ما بعد ذلك.
وكانت دراسات طبية في جانب التغذية قد، لاحظت أن الطفل بعد ولاته يُقبل على تناول الأطعمة التي كانت تتناولها أمه خلال حملها بها. والسبب أن الجنين تذوق طعم المواد الكيميائية فيها وتعود عليها، ولذا يُقبل على تناولها بعد ولادته. وأوضح الأمثلة كانت أنواع من الفواكه والخضار.
وكانت دراسات أخرى قد تحدثت عن أن الكلمات التي تعود الجنين على سماعها خلال حمل أمه به، يسهل عليه ملاحظتها ويُبدي علامات على معرفته بها، بخلاف كلمات أخرى لم يسمعها إلا بعد ولاته.
والجنين يشعر بالألم. وليس صحيحاً كما كان شائعاً أنه لا يشعر بالألم، إلا بعد بلوغ الأسبوع 28 من عمر الحمل. بل هو يشعر بالألم، وفق ما هو متوفر من دراسات طبية، حتى في الأسبوع الـ20 من مرحلة الحمل. وهذه النقطة أثارت جدلاً واسعاً بين مؤيدي ومناهضي الإجهاض، وذلك للإجابة عن سؤال: هل هناك من حاجة إلى تخدير خلال تلك العملية أم لا؟
ودراسات الأشعة فوق الصوتية تتحدث، ومنذ سنوات، عن أن الجنين، داخل الرحم، يبتسم ويبكي ويتثاءب ويمص أصبعه. وهو ما يُناقض اعتقادات طبية سابقة بأن الطفل يتعلم الابتسامة من مراقبته لابتسامة أمه! ولئن كان الاعتقاد الطبي الشائع أن الجنين يبدأ بالحركة في الأسبوع 12 من الحمل، فإن بعض الدراسات الطبية أكدت عبر صور الأشعة الصوتية، قيام الجنين بتحريك أطرافه في الأسبوع 8 من الحمل! والملاحظ أن جانب تفاعل وشعور الجنين بما يدور حوله، يأخذ اهتماماً جاداً بصفة أكبر بين الباحثين. وهو ما يعني أننا سننتظر ظهور الكثير مما يُثير الدهشة والعجب حول تلك المرحلة الحيوية للجنين، وتأثيراتها على بقية حياته.
والسؤال لدى الباحثين ليس هو: هل ابتسامة الجنين دليل على سعادته وبهجته؟ بل هو: لماذا ترفّ وترمش عين الجنين، وهو داخل الرحم المظلم؟